Monday 17 October 2011

بعض خفايا حرب تشرين

بعض خفايا حرب تشرين

من صفحات التاريخ الأسود لحافظ الأسد

في مقـابلة لي مع قنـاة العربيـة الفضائيـة يـوم 6/10 ، وبمناسبة مرور 38 عامـا على نشوب حرب تشرين 1973 ، تطرقت بإختصار شديد إلى أحــد خفايــا تلك الحرب ، المتمثل في قيـام حافظ الأسد ، وقبل بضعة أشهر مـن الحرب ، بعمليـة تنقلات واسعـة في المناصب العسكريـة العليـا ، ممـا أدى إلى نتائج مؤسفة . وأرغب الآن في إلقـاء المزيد من الضوء على هذا الأمر ، وعلى خفايا أخرى من تلك الحرب ، بكل تجرد وموضوعية ، من منطلق خبرتي العسكرية - الإستراتيجيــة ، وتجـربتي الشخصية المتواضعة . وليس مـن منطلق كوني معارضـا للنظـام المجرم . مع الإشارة ، بدايــة ، إلى الأمورالمهمة التالية :

1- قيـام إعلام النظـام ، العريق في التضليل والكـذب ، بترويج صورة مختلقـة ومزيفـة لأحـداث تلـك الحرب ، ُقلبت فيها الحقائق رأسا على عقب ، وبولغ فيها بالإنتصارات المتواضعة ،وأهم من كل ذلك إطلاق صفـة " التحريرية " على حرب لـم تحرر شبرا واحدا من الجـولان المحتـل ، ولم تحرر حتى " الإرادة " كما إدعى النظـام . لأن الجـولان لا تزال محتلـة حتى الآن ، وبعـد مرور سبعـة وثلاثيــن عاما ، لم تطلق فيها رصاصة واحدة ضد العدو .

2- إن ما أكتبـه هنـا ، موضحـا ومنتقـدا ، لايمس ولاينتقـص ، على الإطـلاق ، من شجاعـة وبطولــة وتضحيات جنود الجيش العربي السوري وصغار الضباط ، الذين قدموا أرواحهـم ودمائهـم رخيصـة في سبيـل الوطن . لكنه يمس ويدين ، بكل تأكيد ، القيادات العليا الفاشلة وغيرالمؤهلة للقوات ، وعلى رأسها السفاح حافظ الأسد .

3- لقد قمت على مدى سنوات ، بعـد الحرب ، وبمبادرة ذاتية ، بالتحقيق مع كل من أتيحت لي فرصة التواصل معه ، من الجنود وصف الضباط والضباط الذين شاركوا في الحرب . كما إطلعت على كـل المراجع والوثائق التي نشرت عن الحرب باللغة العربية ، وبعض ما صدر باللغة الإنجليزية ،توصلا للحقيقة المجردة عن كل شك .

4- مما يؤسف له ، ويحز في النفس ، ويثير الغضب والإستنكار ، أن يتحول الجيش الوطني الذي قدم التضحيات الغالية والبطولات العظيمـة في حرب تشرين ، وكـل الحروب والإشتباكات السابقــة ، من أجــل الوطن والشعب ، إلى آلـة قمع وقتل مروعة تزرع الخراب والتدمير ، وتحصد الأرواح في كل أرجاء سوريـة الحبيبة ، تنفيذا لأوامر عائلة متوارث فيها الإجرام والفساد إبنا عن أب .

5- وممـا يؤسف لـه أكثر، أن تفـوت الفرصـة الوحيـدة في التاريخ الحديث ، وربمـا التي لن تتكـرر ،

لتحرير الجولان ، وهزيمة إسرائيل في تلك الحرب ، التي كانت فيها القـوات المسلحـة السوريـة فـي أفضل حالات الخبرة العسكرية والقدرة القتالية ، وأعلى درجات الجاهزية والتسليح المتفوق وأروع مستويات الحالة المعنوية . عدا عن ميزة تحقيق عامل المفاجأة ، الذي كـان يفترض أن يميـل بالكفـــة كثيرا لصالح قواتنا المهاجمة .

بعد هذا التمهيد ، أستطيع الآن الحديث عن بعض خفايا الحرب ، وليس كلها ، فذلك يتطلــب كتابة مجلد كامل :

1- تنقـلات ما قبل الحرب : أواخر أيارعام 1973 ، أوعز حافظ الأسد للمكتـب العسكري في القيــادة القطرية لإصدار تعميم للجهاز الحزبي في الجيش ، ملخصه أنـه قـد حـان الوقت لكي يتسلم الرفــــاق الحزبيون مسؤوليات القيـادة بعـد أن إكتسبوا الخبرات والمؤهلات العسكريـة ( وهذا كذب صريح ) . على إثر ذلـك صدرت نشرة تنقــلات شملت تبديـل كافة قـادة فـرق الجيش الخمسـة ( الأولى والثالثـة مدرعـات ، والخامسـة والسابعـة والتاسعـة مشـاة ) المتميزين بكفاءاتهــم وخبراتهــم العاليــة والذين درسوا في أفضل المعاهـد العسكرية في الإتحـاد السوفييتي وفرنسا ، بضباط حزبيين عديمي الكفــاءة والخبرة القتالية ، بإستثناء المرحوم " عمر الأبرش " غيرالحزبي ، الذي عين قائـدا للفرقـة السابعــة مشاة في القطاع الشمالي ، وكان هو قائد الفرقة الوحيد الذي أستشهد في الحرب . كانت المصيبة فــي تعيين " توفيق الجهني " وهو ضابط معروف بغباءه وإهماله وضعف ثقافته العسكرية ، قائدا للفرقــة الأولى المدرعة ، زهرة الجيش السوري ، المزودة بأفضل دبابة في العالم آنذاك ، الدبابة ت 62 التي تتفوق بمراحل على دبابات الباتون والسنتوريون الإسرائيلية ، والمزودة بأجهزة الإستقرار والرؤيـــة الليلية الحديثة . كما عين في نفس الفرقة " شفيق فياض " وهوضابط سكير مهمل ، إختصاصه أصلا سيارات نقل لا يفقـه حرفا في شؤون الدبابات ، قائدا لأحد ألوية الفرقة ، وأفضل ألوية الجيش قاطبــة اللـواء 91 دبابات ( المعروف لكل السوريين بإسمه القديم " اللواء سبعين " ) الذي يتألف قوامه مــن جنــود متطوعين أمضوا العديد من السنوات في الخدمة ، وتملكوا على أعلى درجات الخبرة والكفاءة التدريبية والقتالية .

كما تم تعيين " مصطفى شربا " قائدا للفرقة الثالثة المدرعة ، وهو ضابط غير مؤهل للخدمة الميدانية من الناحية الصحية . كان على تلك الفرقــة ، بموجب الخطة الحربية ، أن تتحرك في الليلـة الأولى للهجوم من مكـان تمركزها الدائم في " القطيفة " شمال دمشق إلى " الكسوة " جنوب دمشق ، وبالتـالي عليها أن تمر من خلال شوارع العاصمة . ولم يكن " حافظ الأسد " مستعدا للمخاطرة بهذا الأمر ما لم يكن ضامنا لولاء قائد الفرقة وضباطه المطلق . وليذهب مصير الوطن والجيش والحرب إلى الجحيم ، على أن لا يتعرض النظام الحاكم لأي مخاطرأو هزات .

كما شملت نشرة التنقلات العديد مـن المناصب الهامة الأخرى منها ، على سبيل المثال وليس الحصر، تعيين " على الصالح " قائدا عاما لسلاح الدفاع الجوي المدفعي والصاروخي ، وهو ضابط كل خبرته العسكرية تتلخص في كونـه قائـدا لفوج مدفعيـة مضـادة للطائرات ، ولا يعرف الفـرق بين بين الصاروخ " سام 6 " وصواريخ الألعاب النارية .

يحار المرء في فهم وتفسير هذه الإجراءات المخربة والهدامة ، التي أقدم عليها المقبور حافظ الأسد في وقت تتحضر فيه الدولة والقوات المسلحة ، التي يرأسها ، لخوض غمـار حرب مصيريــة تاريخية يتوقف عليها مستقبل الأمة والمنطقة . لقـد لعب عامـل القيــادة ، عبر التاريخ الحربي للعالم ، الدور الأكبر والأهم في تحقيق الإنتصـارات ، وهذا ما يعرفه المذكور بكل تأكيد ، ومع ذلك أقدم على عزل القادة الأكفاء في أحرج الأوقات وأشدها حاجة قصوى اخدماتهم . وإستبدلهم بالأغبيـاء الجهلـــة الذين سببوا الكوارث . وكل ذلك من أجل كرسي الحكم الذي يجلس عليه ، ومن منطلق تفضيله للولاء الحزبي والشخصي على عامل الكفاءة والخبرة . وهـو مـا أكـده " مصطفى طلاس " بالنص الصريح في مذكراته .

2- في مجرى الحرب : بعد ظهر يوم السادس من تشرين بدأ الهجوم على كامــل المواجهة ، وتمكنت قواتنا العاملة في القطاعين والجنوبي من إختراق الدفاعات المعادية ، وتوغلت حتى نهاية اليوم بعمق 6-10 كيلومتر . وخلقت بذلك الشروط اللازمة لزج الفرقة الأولى المدرعة ، نسق ثاني الجيش ، فـي العملية وتطوير الهجوم حتى نهر الأردن وتحرير كامل الجولان المحتل . وقد تحققت هذه النجاحات الأولية بفضل العوامل التالية :

- تحقيق المفاجأة التكتيكية والإستراتيجية التامة ، بسبب غرور العدو وعدم توقعـه أن يتجرأ أي جيش عربي على مهاجمة إسرائيل .

- التفوق العددي الكبير لقواتنا على العدو الذي وصل إلى أربعة أضعاف .

- وقبل كل شيء ، شجاعة وبطولة وتضحيات الجنود وصغار الضباط السوريين .

صباح اليوم التالي ، تقدمت الفرقة الأولى للدخول في المعركة . 300 دبابة ت- 62 ومئات العربات المدرعة ، تتحرك بأرتال لا نهاية لها مدعومة بالمدفعية والمشاة الميكانيكية وباقي صنوف القوات الأخرى في منظر مهيب وصفه جنرال أجنبي متمرس ، يعمل في قوام مراقبي الأمم المتحدة في المنطقة بقوله : " لم أر في حياتي منظرا كهذا ، لا في الأفلام ولا في المناورات الحربية ولا في العمليات الحقيقية " . تقدمت الفرقة حتى " كفر نفاخ " على عمق 20 كم ، وتكبدت خسائر فادحـــة وفي مساء نفس اليوم تراجعت إلى قواعد إنطلاقها الأولية ، بثلاثين دبابة فقط ، بعد أن خسرت تسعة أعشار دباباتها . طبعا لا يلام على هذه النتيجة المأساوية ، التي غيرت مصير الحرب ، سوى القـادة الجهلة الجبناء ، والذي عينهم في مناصبهم قبيل الحرب .

في اليوم الثالث للحرب ، بدأ العدو هجوما معاكسا بعد أن جلب فرقتين جديدتين . ويوم 9/10 كانت كافة قواتنا قـد تراجعت إلى مواضعها قبل بدء الهجوم ، دون أن تستطيع التمسك بأيـة مواضـع داخل الجولان . في اليوم التالي تقدم العدو في القطاع الشمالي ، وتمكن من خرق مواقعنا الدفاعية ،ثم توقف نهاية يوم 13/10 ، بعد أن إحتل ما عرف ب " الجيب " الذي إمتد شرقا حتى بلدة كفر شمس على عمق 20 كم في مواقعنا الدفاعية ، والذي تبلغ مساحته ثلث مساحة هضبة الجولان . ثم توقفـــت الأعمال الهجومية من الطرفين ، وإستمرت الإشتباكات بالنيران حتى وقف إطلاق النار في 22/10.

3- معركة القنيطرة : كلف بالهجوم على مدينة القنيطرة وتحريرها ، اللواء 52 مشاة من قوام الفرقــة التاسعة ، الذي فشل طيلة يومين من التقدم لأكثر من التخوم الشرقية للمدينة ، بعد أن فقد كل دباباتـــه ومعظم عتـاده وآلياتـه الحربية . وقد قرر قائـد الفرقة التاسعة دعم اللواء بكتيبة دبابات من اللواء 43 مدرع . وقد تحركت تلك الكتيبة ليلا بشكل عرضاني لمسافة 15 كم ، ووصلت إلى مشارف القنيطرة من الجنوب لكنها وقعت في كمين دبابات معادي منعها من التقدم أكثر من ذلك . وبالتالي فإنه لم تجر أية معارك داخل المدينة ولم يتم تحرير أي جزء منها خلال الحرب .

لكن إعلام النظام المضلل كان له رأي آخر مخالف للحقيقة . فبعـد الحرب بسنوات ، أنشئت " بانوراما حرب تشرين " في أول أوتوستراد " 6 تشرين " في دمشق ، بمعونة خبراء وفنانون مـن كوريا الشمالية ، مختصون بتزييف التاريخ الحربي وتمجيد وتأليه " كيم إيـل سونغ " ، كلفت خزينـة الدولة أكثر من 500 مليون ليرة سورية . وفيها ُتعرض صورة فنيـــة مجسمة للقتال الوهمي الــذي دار في شوارع وأنحاء القنيطرة لتحريرها . وهو ما يخالف الواقع كليا لأن المدينة لم تتحرر إلا بعد الحرب بستة أشهر ، وبجهود " هنري كيسنغر " في مفاوضات فصــل القوات التي أشرف عليهــا . ولم ترجع المدينة إلى السيادة السورية إلا بعد أن دمرها العدو بالبلدوزرات والمتفجرات .

في الختام ، هذه مجرد صفحة من صفحات التاريخ الأسود للمقبور " حافظ الأسد " الذي دمر ، طيلة ثلاثين عاما من حكمه الإستبدادي ، كل شيء جيد في هذا البلد الحبيب ، بما في ذلك الأخــلاق والمعنويات والتاريخ ، ثم أورث الدولة لإبنه الغبي المغرور لكي يتابع رسالة الإجرام واللصوصية .





في 17/10/2011                                                                                   العميد الركن المتقاعد عقيل هاشم